على شفا القصيدة… بين زفرات الذات ونداءات الوجود

بدر قلاج | مراكش

ليست حليمة حريري مجرد شاعرة تنتمي إلى جغرافيا الدار البيضاء، بل هي كينونة تتجاوز المكان، وتحمل في صوتها وتدويناتها مزيجًا من عطر الطفولة وصخب الأسئلة. تجربتها الشعرية لا يمكن اختزالها في مسار زمني يبدأ من “غربة الروح” ولا ينتهي عند “على حافة الصراخ”، بل تُقرأ كرحلة داخل تضاريس الكائن، حيث تتقاطع الانفعالات مع التأمل، والبوح مع الإنصات العميق لصوت الداخل.


ما يميز هذه التجربة ليس فقط تعدد الأشكال الشعرية بين الفصيح والزجل، بل قدرتها على تحويل الذات الأنثوية من مجرد حضور شعري إلى بنية دلالية تحمل رؤية للكون، للآخر، وللمعنى. فمن “غربة الروح” التي صدرت سنة 2018، مرورًا بـ”حواس الليل”، و”ظلال الهبوب”، إلى الإصدار الزجلي “شي كلام فشوني”، وأخيرًا “على حافة الصراخ”، كل عنوان هو في حقيقته جسر للعبور نحو قلق فلسفي وجمالي، تعيد من خلاله الشاعرة كتابة الأسئلة القديمة بلغة جديدة، وتحمل على كاهلها مهمة الترجمة الوجدانية لأزمنة الخوف والأمل والتمزق.


اللافت في التجربة أن “حواس الليل” لم تبق مجرد ديوان، بل تحولت إلى موضوع بحث أكاديمي لنيل الإجازة بجامعة القاضي عياض، ما يمنح هذا العمل بعدًا علميًا يتقاطع فيه الإبداع مع التحليل، ويجعل من شعر حليمة حريري مادة قابلة للتفكيك، لا سيما أنها تتحرك في قصيدتها النثرية بين نبض اللحظة وأفق التجاوز، دون أن تفقد دفء العاطفة وصدق النبرة.


الاشتغال الإعلامي لحليمة، من خلال إعدادها وتقديمها لبرنامج “إطلالة على التراث” و”طريز لحروف” عبر أثير إذاعة صوت ورزازات، يعكس انشغالها بقضايا الذاكرة المغربية وحرصها على صون الهويات المتعددة، وهو ما يجعل من حضورها الثقافي شمولياً: فهي تكتب، وتؤرخ، وتستمع، وتحاور، وتفتح النوافذ نحو أصوات قد تُنسى لولا فعل التوثيق العاشق.


كما أن منحها صفة “سفيرة السلام” من قبل الاتحاد العالمي لسفراء السلام والإنسانية، لم يكن مجرّد تتويج رمزي، بل اعتراف بمسار من الالتزام الإنساني في زمن يكاد الشعر فيه يُختزل في شكليات النشر والمهرجانات. حليمة حريري في المقابل تؤمن أن القصيدة يمكن أن تكون جسرًا بين الأنا والآخر، بين الصمت والصراخ، بين الأرض والسماء.

ولعل إسهامها في دواوين جماعية مثل “شعراء في الحجر” و”العربي الآن” هو امتداد لهذا الوعي الجمعي بالشعر، كفعل مقاومة ناعم، لا يحتمي بالعزلة بل يتورط في همّ الجماعة، في الحروب الصامتة، وفي كل ما يخدش إنسانيتنا بصمت.


حليمة حريري ليست فقط شاعرة كتبت عن الغربة، بل امرأة جعلت من الغربة وطنًا مؤقتًا، ومن الصراخ قصيدة، ومن الهبوب ظلًا، ومن الليل حاسة جديدة. إنها ذات تعيد تشكيل العالم وفق إيقاعها الخاص، وتمنح اللغة حيوات متعددة، في زمن تُختزل فيه الكلمات في المعنى الواحد.

  • Related Posts

    افتتاح الدورة 23 لمهرجان فن العيطة بأسفي بحضور عامل الإقليم وشخصيات رسمية..

    أسفي بقلم : رشيد الزحافجريدة وكالة الأنباء المغربية احتضنت مدينة آسفي مساء يوم الأربعاء فعاليات افتتاح الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان فن العيطة، الذي يُعد من أعرق التظاهرات الثقافية والفنية على المستوى…

    المزيد

    مهرجان العيطة المرساوية في نسخته الثانية بجهة الدارالبيضاء-سطات

    تنطلق في الفترة ما بين 18 يوليوز الجاري و2 غشت المقبل فعاليات الدورة الثانية لمهرجان العيطة المرساوية الذي تنظمه وزارة الشباب والثقافة والتواصل ومجلس جهة الدار البيضاء سطات، ويحط الرحال بثلاث…

    المزيد

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    قد فاتك

    بعد انتخاب جواد الزيات رئيسا للرجاء هل بإمكان النسور الخضراء التحليق عاليا ؟

    بعد انتخاب جواد الزيات رئيسا للرجاء هل بإمكان النسور الخضراء التحليق عاليا ؟

    المصالحة في عهد الملك محمد السادس.. مسار ملكي لترسيخ العدالة والتعايش

    المصالحة في عهد الملك محمد السادس.. مسار ملكي لترسيخ العدالة والتعايش

    منتدى “المغرب اليوم”: نحو ترسيخ أسس أمة عظيمة برؤية 2030

    منتدى “المغرب اليوم”: نحو ترسيخ أسس أمة عظيمة برؤية 2030

    أحوال الطقس غدا السبت.. انخفاض ملموس في درجات الحرارة في معظم المناطق

    أحوال الطقس غدا السبت.. انخفاض ملموس في درجات الحرارة في معظم المناطق

    صدامات عربية مرتقبة في الدور الرابع من تصفيات مونديال 2026 الآسيوية

    صدامات عربية مرتقبة في الدور الرابع من تصفيات مونديال 2026 الآسيوية

    حكمة جنوب إفريقية تقود مباراة المنتخب الوطني للسيدات ضد نظيره المالي

    حكمة جنوب إفريقية تقود مباراة المنتخب الوطني للسيدات ضد نظيره المالي