
في خطوة غير مسبوقة، سلطت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها الضوء على تفشي ظاهرة استغلال المناصب لتحقيق منافع جنسية في المغرب، وذلك ضمن تقريرها السنوي لعام 2024. للمرة الأولى، اعتبرت الهيئة هذه الظاهرة إحدى أشكال الفساد الخطيرة، وليست مجرد تصرفات غير أخلاقية أو تحرش جنسي، مؤكدة على ضرورة التعامل معها بجدية وفق المعايير الدولية لمكافحة الفساد.
تشخيص دقيق مبني على معطيات دولية ووطنية
اعتمدت الهيئة في تقريرها على استقراء شامل للبيانات المتاحة على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية. استندت في تحليلها إلى معطيات من “بارومتر الفساد” الخاص بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، والبحث الوطني للمندوبية السامية للتخطيط، إلى جانب دراسات وأبحاث استقصائية من منظمات دولية معنية بمكافحة الفساد. وخلصت هذه المقاربة إلى أن الظاهرة تشهد تفاقمًا واسعًا سواء على المستوى الدولي أو الوطني.
التقرير أظهر أن إساءة استغلال المناصب والسلطة للحصول على منافع جنسية ليست حالة فردية أو عرضية، بل ظاهرة تتسم بانتشار كبير في عدد من القطاعات. تشمل هذه القطاعات فضاءات مهنية واقتصادية مختلفة، مثل أماكن العمل أو مراكز تقديم الخدمات العامة. وتشمل هذه الانتهاكات مقايضة الخدمات أو الفوائد المهنية بمنافع جنسية، سواء كانت مقدمة أو موعودة أو متوقعة.
تجاوز الصورة النمطية وتمدد الظاهرة
أحد أبرز ما جاء في التقرير هو تحليل دقيق لفئات مرتكبي وضحايا هذا النوع من الفساد. وكشفت الهيئة أن الظاهرة تجاوزت الصورة التقليدية المتعلقة بالتمييز ضد المرأة على أساس النوع، حيث تتنوع الفئات التي تتعرض لاستغلال جنسي بين الجنسين، وتتنوع القطاعات التي تتواجد فيها هذه الممارسات. هذا التوسع يزيد من تعقيد الظاهرة ويبرز الحاجة الملحة لتبني سياسات وإجراءات فعالة لمحاصرتها.
تصنيف الظاهرة كفساد مؤسسي
أكدت الهيئة أن استغلال المناصب لتحقيق منافع جنسية يُعد أحد مظاهر إساءة استغلال السلطة والنفوذ، وبالتالي يقع ضمن أفعال الفساد التي تُجرّمها الاتفاقيات الدولية والمعايير القانونية المعتمدة. وتشدد الهيئة على ضرورة التعامل مع هذه الممارسات كجرائم فساد تتطلب إجراءات قضائية صارمة لمحاسبة مرتكبيها وحماية الضحايا.
توصيات وإجراءات مقترحة لمحاصرة الظاهرة
تسعى الهيئة من خلال هذا التقرير إلى توسيع المعرفة بالظاهرة وتحليل أسبابها وبؤر انتشارها، وذلك بهدف وضع حلول عملية تساهم في الوقاية منها والحد من تفشيها. وتعتزم الهيئة تقييم الإطار القانوني الحالي في المغرب وتقديم توصيات تستند إلى المواصفات الدولية لمكافحة الفساد. كما ستعمل على استقراء التشريعات الدولية والاجتهادات القضائية التي تناولت هذا النوع من الجرائم، بهدف استشراف مداخل أساسية للوقاية منها وتفعيل آليات لمواجهتها قانونيًا ومؤسسيًا.
تعزيز الرقابة والمساءلة
ضمن هذه الاستراتيجية، تدعو الهيئة إلى تعزيز آليات الرقابة والمساءلة داخل المؤسسات العامة والخاصة، وتكثيف الجهود القانونية لمواجهة استغلال النفوذ الجنسي في العمل أو في الوصول إلى الخدمات. كما تشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات وقائية شاملة تستهدف الكشف المبكر عن هذه الممارسات وفرض عقوبات رادعة على مرتكبيها.
من خلال هذا التقرير، تسعى الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة إلى تسليط الضوء على قضية حساسة تتجاوز حدود الانتهاكات الأخلاقية لتصبح جزءًا من منظومة الفساد. وترى الهيئة أن التوعية الشاملة والمواجهة الحازمة لهذه الظاهرة على كافة المستويات—القانونية، المؤسسية، والمجتمعية—هي المفتاح لحماية الأفراد وضمان نزاهة المؤسسات والفضاءات المهنية في المغرب.